الثلاثاء، 31 مارس 2009

حقائق من انتفاضة التسعينات ( 2 ) ... الزلزال الذي صعق حكام البحرين

هاني الريس

في شهر أكتوبر من العام 1994، بدأ ينهار بشكل واضح حاجز الخوف، الذي ظل جاثمآ على رقاب شعب البحرين طيلة ثلاثة عقود من الزمن والى غير رجعة، وفي إطار المتغيرات الاقليمية والدولية الكبيرة في مايخص الديمقراطية وتدابير حقوق الانسان، وبعد تداعيات حرب الخليج الثانية، وتصاعد حمى مطالبة شعوب المنطقة بضرورات التغيير في بلدانهم، قدمت مجموعة من الشخصيات السياسية والاجتماعية والدينية في البحرين الى أمير البحرين الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة، عريضة شعبية تأريخية، طرحت فيها رغبات غالبية شعب البحرين بحدوث اصلاحات ضرورية على الانظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والامنية المعمول بها في البلاد، وإدخال الديمقراطية وحقوق الانسان، وعودة المواد الحيوية المعطلة من دستور البحرين العقدي لعام 1973، وعودة المجلس الوطني ( المنحل بقرار بمرسوم أميري ) أو المباشرة في انتخابات برلمانية جديدة بعد مضي أكثر من عشرين سنة على مرسوم الحل، وتوفير فرص العمل للمواطنين من دون تمييز طبقي أو مذهبي، وعودة المبعدين والمنفيين الى البلاد من دون أية شروط مسبقة .
وحملت هذه العريضة التأريخية، توقيعات أكثر من 125 ألف مواطن بحريني من مختلف الفعاليات والتوجهات والتيارات السياسية والوطنية والدينية والطوائف البحرينية، الذين انضووا جميعا تحت لواء الحركة الدستورية، هذه الحركة المناضلة والمجاهدة التي رأت بأن الطريق الوحيد الممكن لمعالجة اعوجاج الاوضاع وتحقيق أهداف وطموحات وتطلعات شعب البحرين لايمكن أن يمر سوى من خلال فتح قنوات الحوار والمصارحة والمصالحة الوطنية الجدية بين الحكم والمجتمع في البحرين، ولذلك تقدمت الشخصيات القيادية في لجنة العريضة الشعبية، بطلب إجراء موعدآ لمقابلة أمير البحرين عيسى بن سلمان آل خليفة، بوصفه رأس هرم السلطة السياسية في البلاد ( التي كانت تحكم فعليآ في ذلك الوقت من قبل حكومة خليفة بن سلمان ورئيس جهاز المخابرات البحرينية المرتزق البريطاني أيان هندرسون ) ولكن للأسف الشديد تجاهل الحاكم هذا المطلب ورفض بالمطلق إجراء أية مقابلة مع أي من أعضاء لجنة العريضة الشعبية، بل وانه حاول أن يقلل من أهمية هدا الحدث الكبير في تأريخ البحرين الحديث والمعاصر، حيث إعتبر هذه المهمة الوطنية بمثابة نوع من أنواع التذخل المباشر في شأن السياسة الداخلية للدولة البحرينية، ولذلك فانه أصر على عدم اجراء أي حوار وطني من شأنه انقاذ البلاد من دوامة الازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الذي تسبب بها الحكم وظلت تعصف بالمجتمع على مدى سنوات عديدة، بل وقد تمادى الحاكم في مواقفه المتشددة تجاه ذلك، وكان لم يهدأ له بال حتي بلغ به الامر تكليف كل أجهزته الامنية القمعية القيام بملاحقة واعتقال القادة البارزين في لجنة العريضة الشعبية، وذلك بالرغم من استخدام الشعب وقواه المناضلة والمجاهدة ، كافة الاساليب الحضارية الممكنة لاقناع الحاكم وبطانته بالامتثال لرغبة الاكثرية الساحقة من شعب البحرين في الحصول على مطلب الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، إلا أن الحكم وبأصرار من حكومة ( خليفة/ هندرسون ) رفض كل نداءات التعقل والحكمة والمساعي الحميدة، ومارس منذ اللحضة الاولى للتحرك المطلبي، نهجآ قمعيا واستبداديآ لامثيل له ضد كافة الاصوات المنادية بالاصلاح والتغيير الحقيقي والجوهري، ولم يتورع من فرض ( قبضة طاغية ) ليس فقط على مستويات السياسة والأمن، بل أيضا على مختلف وسائل الحريات، وقام بفرض قوانين الاحكام العرفية من دون الاعلان عنها بشكل واضح، تلك المتمثلة بمنع التجمهرات والمسيرات والاجتماعات والندوات العامة الاجتماعية والدينية وخرق جميع الحريات .
وبداية تمثل رد فعل الحكم على التطورات في البلاد، بأعتقال ثلاثة من أبرز القيادات الدينية ( الشيخ علي سلمان والشيخ حمزة الديري والسيد حيدر الستري ) في شهر ديسمبر من العام 1994، وهم من علماء الدين الشيعة ويحضون بثقل جماهيري واسع النطاق في أوساط الطائفة الشيعية في البحرين، ونتيجة لهذا الاجراء التعسفي، تظاهر الآف المواطنين من سكان المناطق الشيعية وأحتلت الجماهير شوارع المدن والقرى البحرينية، وهتفت ضد عملية الاعتقال والعنف والارهاب الذي فرضته قوات الأمن على التحرك المطلبي الذي كان يدعم علماء الدين الثلاثة ويطالب باطلاق سراحهم مع بقية المعتقلين في تلك الاحداث وعودة دستور البحرين العقدي لعام 1973، والبرلمان وجميع المبعدين والمنفيين الى البلاد، وتزامنت مع التظاهرات الحاشدة في غالبية المناطق البحرينية، عمليات عنف دامية بين قوات الأمن المدججة بمختلف أنواع الاسلحة الحية والمطاطية والغازات المسيلة للدموع، والمواطنين العزل، وأضرمت النيران في العديد من محطات التوليد الكهربائي وكسرت واجهات بعض المحال التجارية الكبيرة وسدت منافد الطرق الرئيسية بالاطارات المشتعلة والحجارة، واستمرت التظاهرات والاعتقالات العشوائية ضد المواطنين الابرياء طوال أشهر عديدة.
وبذريعة المحافظة على أمن واستقرار البحرين وحماية المكتسبات الوطنية، مارست قوات أمن هندرسون واجهزة الشرطة وكتائب من قوة دفاع البحرين عمليات تمشيط مناطق التحرك المطلبي، وقامت بعمليات ارهاب منظمة ضد سكان القرى الآمنة، وقتلت واعتقلت العديد منهم خلال المواجهات، حيث كانت جميع هذه القوات وبدماء باردة تواجه صدور شعب أعزل لايملك سوى أيمانه بعدالة قضيته، بأنواع حديثة ومتطورة من الاسلحة .
لقد كان هذا الحدث المهيب هو القشة التي قصمت ظهر الحكم وأفقدته صوابه حيث جاء الحدث المزلزل تتويجا لانتفاضة شعبية عارمة هزت البحرين والمنطقة، شارك فيها الالاف من ابناء شعب البحرين من مختلف القطاعات والتيارات والطوائف في عمليات بطولية مطلبية شهدتها مختلف المناطق البحرينية وكانت بوتيرة أشد من مثيلاتها انتفاضات العهود التي سبقتها .
واستمر شعب البحرين، في التصدي لكافة إجراءات الأمن وارهاب الدولة، وواصلت الجماهير الشعبية عبر الانتفاضة الدستورية المباركة، نضالاتها المستميتة والعادلة، وقدمت على مدبح الحكم الكثير من الشهداء والمعتقلين والمنفيين الجدد الى العواصم العربية والعالمية، وعاشت البحرين خلال تلك الحقبة العصيبة ( زمن فتنة وسنوات معتمة من القمع المطلق ) ولم تستطع الاصوات المنطلقة من هنا أو هناك أن تسكت هجمة الحكم الوحشية الاستبدادية على الحركة المطلبية .
وفي مقابل الوحشية الامنية، التزمت الحركة المطلبية بضبط النفس، وسعت بكل ما أتيح لها من قوة أن تطرح صيغة حضارية وانسانية لتطويق الازمة ووقف نزيف الدم الذي صار ينهمر من أجساد وارواح شباب الوطن، نتيجة عسف قوات الامن واستهتارها بأرواح المواطنين، وأن ترد على المزاعم الحكومية التي اتهمت الحركة المطلبية باستخدام العنف والتخريب والطائفية والاستقواء بدعم خارجي من أجل اسقاط الحكم والوصول الى السلطة عبر هذة الوسائل، بالمواقف الشجاعة التي أبدتها كافة أطراف وفصائل المعارضة البحرينية المنضوية تحت راية الحركة الدستورية، وهي عدم الانزلاق نحو ممارسة أي شكل من اشكال العنف المدمرة، سوى محاولات الدفاع عن النفس من استفزازات الاجهزة الامنية، ونشير هنا بشكل خاص، ما تحدث عنه سماحة الشيخ الجليل عبد الامير الجمري، أحد أبرز قادة الحركة المطلبية في صلوات يوم الجمعة، حول تمسك هذه الحركة بالطابع السلمي لطرح المطالب الشعبية، على قاعدة إعتماد الحوار ومواجهة الحجة بالحجة والفكر بالفكر وليس بفرض القوة، بالشواهد التالية :
1.أن لغة العنف لاوجود للقناعة النفسية والحرية والفكرية في ظلها .
2. لان لغة العنف لاقيمة للغلبة على أساسها، لانها غلبة المنطق والفكر والحجة، ويكون التوصل إلى المطلوب على أساس الحرية الفكرية والقناعة الذاتية .
3. ان لغة الحوار تمثل لغة الفكر والعقل والثقة بالنفس، ولغة العنف تمثل لغة الغابة ولغة العضلات، وهي بالتالي تعبير عن العجز في مواجهة الدليل بالدليل والحجة بالحجة ولذلك يلجأ صاحبها لتصفية الطرف المقابل والتخلص منه لأنه لايقوى على سماع أرائه وأطروحاته، ونتيجة ماقدمناه هي أن لغة الحوار أحدى الثوابت الرئيسية في الاسلام وأن لغة العنف لغة إستثنائية قد يلجأ الاسلام إليها حين يستنفد وسائله السلمية وحيث ينحصر الحل في مواجهة القوة بالقوة .
4. أن اهداف هذا الشعب ( شعب البحرين ) واضحة وجلية، وهو تفعيل الدستور، وعودة البرلمان، واطلاق الحريات الديمقراطية، واطلاق سراح المعتقلين، وعودة المنفيين والمبعدين قسرآ، واعادة المفصولين من وظائفهم، هذه هي أهدافنا التي سنعمل على تحقيقها بالطرق السلمية الصحيحة في حركتنا المطلبية .
من كل هذه الاهداف ذات المعاني المعبرة عن روح الاخاء والتسامح التي قالها سماحة الشيخ الجمري، برزت بشكل قاطع الاهداف السلمية للانتفاضة الدستورية المباركة وحرص كافة فصائل المعارضة الوطنية والاسلامية على عدم حصول تفجير في الاوضاع الداخلية تكون نتائجها كارثية على الجميع، لكن مع الاسف الشديد ظل الحكم متمسكا بفرض القوة على الجميع من دون أن يكترث بما سوف تؤل اليه الكارثة التي أصابت الدولة والمجتمع في تلك الحقبة الآسوأ في تاريخ البحرين .
( هذه الموضوعة، منقولة من كتاب سيصدر قريبآ تحت عنوان " البحرين من المشيخة الى المملكة " تأليف : هاني الريس، وتوطئة : الدكتور سعيد الشهابي، وتقديم : الدكتور عبد الهادي خلف )
* الموضوعة القادمة : ( رفض حكام البحرين قبول الآخر ، وتزوير رسالة عن الشيخ الجمري وقادة المبادرة بأعلان التوبة والولاء للأمير الراحل ) .

ليست هناك تعليقات: